قصة غرام مع البحر.. مرثية أهالي المكس لذكرياتهم قبل الرحيل (صور)
كتبت- هبة خميس:
في فراشه كان يتقلب "أحمد أبو محمد" قلقاً من الأخبار التي ترددت منذ أيام، كان قد سمع عن مشروع تطوير الميناء في منطقة المكس وضرورة إخلائه لمنزله والمكان الذي تعلق به، صوت البحر عالٍ يعمل على تهدئته بينما ينطلق أذان الفجر ليكسر حدة الصمت و ينهي تقلبه في فراشه، يصحو من نوم لم ينمه على عجالة ويطمئن على أولاده في فراشهم ثم يفتح باب البيت ويخرج ليبدأ يومه، يتوقف ليلقي نظرة على البحر الهاديء والفنار بينما ينام الجميع يتوقع أن يكون اليوم هو يومه الأخير له ولا يتكرر ذلك الصباح عليه ثانية فينقبض قلبه و ينطلق لقاربه.
في البحر بينما يتحرك به القارب يتذكر جده الذي علمه الصيد، الجد الذي كان صياداً في ترعة الفرخة كان معتمداً على صيد السردين الذي يكثر في تلك المنطقة للدرجة التي تجعل اسمه "سردين المكس" علامة على جودته. جده الصياد لمح كرهه وابتعاده عن الدراسة وحبه للبحر فقرر تعليمه ورعايته.
مثل جده ينتظر "أحمد" شهرين في العام لصيد السردين الذي يمشي في أسراب ضخمة وتجمعات ليعد "كنز الصياد وراس ماله" وعمره 13 عاماً بدأ في النزول مع جده للصيد، علمه كيف يربط السنارة وأنواع الطعوم والخيوط، وبالخيط والبوصة "جدي كان يزعقلي لو سمكة هربت مني".
اصطاد مع جده مختلف أنواع الأسماك مثل الدنيس والقاروص وكل مساء حينما يعودا للبيت يأكلا من السمك "جدي كان لازم يروح البيت بسمك لجدتي، وناكله أي وقت دي حاجة مالهاش معاد أكل السمك ده" بعد وفاة جده كان "أحمد" لم يكمل عامه الخامس عشر بعد لكنه كان قد توقف عن الدراسة ليخبر والده الذي يمتلك "مدبغة" أنه أحب البحر و يود العمل على القوارب للصيد .
أربعون عاماً قضاها "أحمد" صياداً في المكس، يومه يبدأ بصلاة الفجر ثم الانطلاق للصيد "ربنا بيوزع رزقه في الفجر والصياد مننا عايز توفيق من ربنا في البحر"يحفظ البحر ويعرفه أكثر من أي شيء، في قاربه يرتب الغزل لصيد مختلف أنواع السمك، يضعه البحر في مواقف صعبة لكنه يحبه ويشعر بالقرب منه وبارتباط حياته به.
يعود "أحمد مبكراً لمنزله وفي يده السمك الذي رزقه به الله لتتصاعد من منزله رائحة البحر وعقب الغداء يضع الكرسي أمام منزله ليشرب الشاي من ابن عمه الذي يقطن بمنطقة العامرية ويحب زيارته في المكس كي يشتم هواء البحر النظيف، يشرد قليلاً ليعاوده القلق فماذا سيفعل إذا ابتعد عن البحر و لو ساعات؟".
حينما تطأ أقدامك المكان المكون من شارع على جانبيه الكبائن الخشبية والشاليهات وصف منها يطل على رمال البحر ستدرك أنك وطأت ذلك المكان من قبل من خلال الدراما والسينما التي ركزت على المكان بأكثر من طريقة بوصفها مجتمعاً للصيد أحياناً وأحياناً أخرى بقايا الإسكندرية القديمة.
صف الشاليهات المطل على البحر يتعدى إثنى عشر شاليه كل واحداً مكون من طابقين بعضهم تم تجديده ليبني بالطوب والخرسانة بينما حافظ البعض على شكله الأساسي الخشبي، بين الصخور والرمال يقع كشك خشبي صغير يقوم على خدمة الشاطيء ممن يريدون تأجير الكراسي والمشروبات من الشاي و القهوة.
تبدأ "أم عمر" يومها مبكراً فتتحرك من بيتها القريب من الشاليهات صباحاً لشراء لوازم العمل من الشاي والسكر و القهوة، تجمع طلباتها كي لا تنسى شيئاً، ثم تصل إلى الكشك الخشبي أمام الشاطيء لتستقر طوال اليوم . الكشك الخشبي الضيق يتسع بالكاد لدكة خشبية وكرسي أمام نافذة تكشف البحر اعتادت "أم عمر" الجلوس عليه طوال يومها ، في جانب الكشك عدد من الكراسي البلاستيكية التي تؤجرها للناس وأمامها تصطف عبوات الشاي والقهوة والسكر وغلاية صغيرة تحضر بها تلك المشروبات التي تعدها طوال اليوم .
ورثت "أم عمر" مهنة الأم الشهيرة "أم حافظ" التي تعتبر من علامات المكان لحسن سمعتها وخدمتها للناس وحب الناس لها، ولدتها أمها هي وأختها على تلك الرمال التي لا تعرف مكاناً غيرها "أنا اتربيت في العشة دي أنا وأخواتي لو مشينا بعيد نموت دي إسكندرية اللي أنا اعرفها ".
تنشغل "أم عمر" بطلبات إحدى الزبائن الجالسين حولها وعلى الدكة الخشبية، تخرج عبوة الشاي لتضع منه في الكوب مع السكر و تصب الماء المغلي ثم تسلم الكوب للزبون المعتاد، تلتفت لمشهد البحر وصوت النورس وتشرد .
تتقلب على فراشها بتوتر بسبب ألم قدميها، تصحو من نومها لتستقر على أريكة نومها وتفتح نافذتها ليدخل الهواء البارد للداخل، تعيش "جمالات" في ذلك البيت منذ خمسون عاماً حيث اشتراه زوجها بعد زواجهم بسنوات قليلة لتنتقل من منطقة محرم بك للمكس .
البيت الذي كان مبهراً لزوجها يقع على الرمال مقابل البحر، بسبب آلام قدميها تنام "جمالات" على الأريكة أسفل النافذة كي تصحو من نومها على هواء البحر . ذلك المشهد الذي وقع في غرامه زوجها ليشتريه و ينتقلوا إليه منذ خمسون عاماً، أحبت الأسرة وقتها الحرية والهواء والبحر القريب ليكون ذلك المكان المناسب لتكوين أسرة من أربعة أولاد مازالوا يقطنون البيت معها حتى الآن "أنا فضلت عمري كله متمسكة بالبحر والهوا هنا بيشفيني، قعدتي و يومي كله قصاده".
في منتصف اليوم تتحرك تجاه الصيادين، تتفقد السمك الموجود لتصنع به وجبتهم ، تفرح إذا وجدت السمك البطاطا الذي تحبه وتفضله عن كل أنواع الأسماك، تؤكد على الصياد مطلبها فلا تجده لتختار أي نوع آخر ، في الأيام التي يكون بها الصيد شحيح تتجه لمنطقة "الورديان" القريبة لشراء السمك البلطي، تتناوله الأسرة مضطرة فبالمقارنة لا يوجد أفضل من سمك بحر المكس من وجهة نظرهم "الحياة هنا حلوة".
في منتصف اليوم و باقتراب ميعاد الغداء قرر "رمضان أحمد" أن ينحرف بالتوك توك الذي يعمل عليه من الورديان حتى المكس، كل بضعة أيام حينما يشعر بانطباقة صدره يتجه للمكان الذي يحبه منذ صغره ، ينتقي "رمضان" صخرة قصيرة ليقعد عليها مع كوب الشاي من "أم عمر" يرمي همومه على الأمواج ويتنفس الهواء النقي لتهدأ نفسه وينفرج صدره من جديد .
ذلك الوقت المقتطع له كل عدة أيام يعينه على مواجهة ضغط و أعباء الحياة ،ينسيه ما علق بقلبه من حزن ليغسله ،يركب التوك توك ليغادر و هو شخص آخر هاديء البال و رائق الحال "كل الناس عالبحر واحد الغلبان جمب الغني و الاتنين بيشكوا همهم للبحر".
في يوم الجمعة من كل أسبوع يتحرك "سمير عبد الفتاح" من بيته ليمر على إخوته ليذهبوا للصيد كرحلة أسبوعية اعتادوا عليها لخمسة عشر عاماً ،يتحرك الأخوة حتى المكس مكانهم المفضل للصيد،يحب "عبد الفتاح" يوم أجازته الأسبوعية أن يعود للمنزل بمختلف أنواع الأسماك التي اصطادها "السمك هنا حلو و بيطلع معايا أنواع كتيرة زي الشراغيش والبطاطا و القاروص".
يتوسط "سمير" الصخرة منتظراً طرف سنارته كي يخرج بالسمك، تطول قعدته لكنه لا يمل لا يلقي بالاً لفراغ سنارته وقلة السمك اليوم، فالجلوس أمام البحر مع أخوته وأكواب الشاي والأحاديث التي لا تنتهي تغنيه عن أي شيء في العالم .
في فراق الأحبة لا يتبقى لنا سوى الذكريات لنتمسك بها، فكرت "سارة سليم" في ذلك حينما ترددت الأخبار حول تغيير المكان الذي أحبته و لها فيه الكثير من الذكريات، بدأت يومها بصحو طفلتها التي لم تكمل عامها الأول لتطعمها و تقرر أن تذهب بها مع والدتها إلى مطعم "سي اللول" كي تودعا المكان ،استأنفت الأم الثلاثينية تجهيز الرضيعة و حقيبتها الملأى بالملابس الإضافية و المياه ،ثم تتحرك من بيتها بمنطقة العطارين مع والدتها للاحتفال بعيد ميلاد الأم في المطعم الذي تحبه.
منذ ثلاثة أعوام اعتادت "سارة" التجمع مع أختها و زوجها في المطعم و الحرص على التقاط الكثير من الصور هناك ،لكن بعد سفر الأخت و الزوج تلمست "سارة" الذكرى في المكان، تخشى اليوم الذي تفقد فيه الأماكن الخاصة بها و التي تحبها .
تنام الطفلة في الطريق لكنهما فور وصولهما تفيق لهواء البحر، تختارا منضدة تطل على البحر وتتوجه "سارة" لاختيار الأسماك التي تحب تناولها ،تجد أنه من الغريب عليها أن تتناول السمك وتحبه الآن بعد سنوات خصام طويلة بينها و بينه.
"المطعم دة هو اللي صالحني على أكل السمك تختار أنواع من السمك والسبيط وطريقة التسوية وتتناقش مع "أم ميادة" المسؤولة عن مطبخ المطعم في تخفيف الملح ليناسب الطعام معدة الطفلة التي ستكمل عامها الأول بعد شهرين، وتعود للمنضدة تسرح مع أمها في المشهد و تفتقد من غابوا عنه بينما تصمت الطفلة لتستقبل هواء البحر المنعش .
يوم الصياد بيبدأ الفجر
مثل الكثير من سكان المكان ولد "عم محمد" في تلك المنطقة بين البيوت الصغيرة والشاليهات الخشبية لعائلة من الصيادين ،يبدأ "عم محمد" يومه الفجر دون قارب فيختار الغزل المناسب و المكان ليرمي به الشبكة وينتظر امتلائها بالسمك"من كام سنة كنت أرمي الشبكة أطلع بعشرين كيلو سمك بطاطا ،بس دلوقتي السمك مبقاش زي الأول ".
تحفظ تجاعيد الصياد تاريخ المكان منذ نشأته على يد اليونانيين الذين بنوا تلك الشاليهات مقابل البحر و بجوارهم كازينو لسهراتهم ومطعم زفير للأسماك، أحب الأجانب السكن على البحر وارتكاز يومهم عليه والمشهد الذي يتوسطه الفنار القديم ، عاش "عم محمد" عمره بأكمله في ذلك المكان يحفظ ثناياه و بحره و يعلم أين يرمي شبكته ليخرج بالسمك الذي يحبه و يعيش على بيعه، كبرت بناته فزوجهما بالقرب منه و تابع نمو أحفاده حوله .
منذ سنوات طويلة و هو يتابع المخرجين والممثلين وهم يصورون في المكان وفي مسلسل "ليلة القبض على فاطمة" يظهر "عم محمد" في إحدى المشاهد و هو مراهق مازال يحفظ المسلسل وتوقيت ظهوره، وحينما كانوا يصورون مسلسل "الشارع الجديد" اختاره المخرج ليقوم بدور عسكري فرنسي ليرتدي ملابسهم ويظهر في إحدى الحلقات "وأنا شاب كنت أشقر وشعري لونه فاتح وكتافي عريضة، أول ما شافوني قالولي تعالي انت شبه الفرنساويين".
في منتصف اليوم يتحرك "عم محمد" تجاه عشة "أم عمر" ليجلس قليلاً و يرتاح وهو يرشف أكواب الشاي، ثم يتجاذب أطراف الحديث مع أحد الزبائن بينما يتساءل "لو بعدت عن البحر و بطلت الصيد هشتغل ايه على كبر؟".
في صباح الجمعة لا تعرف "نيفين" كيف تصحو متأخراً ، اعتادت الاستيقاظ من نومها صباحاً والذهاب لعملها كمدرسة لذا في يوم الأجازة تعتاد الصحو مبكراً فتذهب لتجهيز كوب من الشاي ثم تتحرك في اتجاه النافذة لتفتحها و تحتسي شايها أمام البحر المطل عليها من النافذة.
يقع البيت المكون من طابقين على الصف الأول للشاليهات أمام البحر مباشرة ، البيت الذي كان ملكاً لجدتها والدة والدها الذي تزوج مع أمه وأسس أسرته في البيت أمام البحر، في ميعاد الإفطار تفتح "نيفين" باب البيت و تخرج الكراسي كي تقعد مع والدتها وأختها لتفطرن أمام البحر وبعد الإفطار يتسمتعن بشرب النسكافيه وهن يراقبن ابن اختها و هو يلعب مع باقي أطفال المنطقة "احنا بنعتبر المنطقة كلها بيتنا بنتحرك براحتنا و فيه أمان".
في الأيام التي يكون بها السردين تخرج والدة "نيفين" لتشتري من الصيادين القريبين و من يد الصياد للموقد مباشرة تتصاعد رائحته وتملأ بيوت المنطقة التي تنتظره طوال السنة، بعد المغرب في الصيف تخرج الأسرة من البيت للرمال ،تصطف الكراسي و يتجمعوا مع بنات العم والأقارب ليسهروا طوال الليل وأحياناً يسبحوا في المياه حتى الصباح .
لكن في أيام الشتاء يصل البحر للبيت فلا يستطيعوا التحرك سوى من الباب الخلفي للمنزل "البيت مجددينه من فترة قريبة قبلها كان خشب و كان صعب وقت الشتا ،صوت الهوا في الشتا بيكون رهيب لكن اتعودنا عليه ".
أثناء سفر والدها اتخذ قراراً بشرا منزل في منطقة أخرى لكن "نيفين" اعترضت وقتها بسبب اعتيادها العيش في المكس وعلى البحر و منذ سنوات حينما شعر السكان بتغير المكان من حولهم بعد توسعة ترعة الفرخة أنشأت "نيفين" جروب على الفيس بوك لتجمع سكان المنطقة ورصد الأخبار ومشاركتها و الزوار و ما يحدث من تغيرات في المكان "عملت الجروب في الأول للسكان إننا نتجمع ونحط أخبار تخصنا أو صور لكن الجروب بقى مليان زوار وبقى تجمع لكل محبي المكس بينزلوا صورهم و بيتكلموا عن تاريخ المكان".
في طفولتها اعتادت "نيفين" وجود نجوم السينما في المكان فتحتفظ بالكثير من الصور التي التقطتها معهم وتحرص على حفظهم جيداً كجزء من ذكريات طفولتها وحاضرها ، صحى والدها من نومه فقامت لتعد له الشاي على عجالة، يقدر الأب "محمد عمار" المشهد الذي يصحو على رؤياه فينتظر في النافذة انتهاء الابنة من إعداد الشاي .
سنوات طويلة قضاها الأب خارج مصر بعد زواجه و استقراره في بيت والدته بالمكس، لم يعمل مع الأب والأعمام في مدبغتهم القريبة وفضل السفر لسنوات ليعود مرة أخيرة منذ سنوات و يستقر في المنزل الذي فكر في بيعه أكثر من مرة "وأنا بره مصر كنت بقولهم ينقلوا في مكان تاني جوة إسكندرية أكتر لكن الأسرة كلها كانت بترفض بسبب حبهم للبيت".
و حينما استقر "عمار" في مصر بشكل نهائي قرر تجديد المنزل القديم لكنه ندم على ذلك حينما اكتشف أن الخشب كان أفضل في الشتا ويعمل على تدفئة المنزل من تيارات الهواء البارد.
تمتلك عائلة "عمار" البيت قبل السبعينات حيث اشتراه والده من مالكه الأصلي اليوناني لتستقر الأسرة فيه و تتعلق بالبحر و المشهد الذي يطل عليهم من النافذة "اتعودت من ساعة ما رجعت كل يوم أصحى افتح الشباك حتى في الشتا".
بعد تقديم الشاي لوالدها وانتهائهم من احتسائه تدخل "نيفين" المنزل لتعد مع والدتها الغذاء بينما تجلس أختها أمام المنزل لتراقب "آدم" طفلها وهو يلعب في حرية يفتقدها في بيتهم بمنطقة "الورديان" القريبة ،قرب حلول الظلام يزداد زوار المكان من زبائن المطعم تصطف الكراسي في مواجهة البحر بينما تنفتح أبواب البيوت ليخرج سكانها يجلسون أمام البحر، يدرك الكثير منهم أنها ربما تكون مرتهم الأخيرة أمام ذلك المشهد وفي رحاب تلك الجدران التي احتضنت سنوات عمرهم ، لكنهم يتفقون على تناسي كل شيء وعيش تلك اللحظة للاستمتاع بها مرة أخيرة بعد.
وداعًا المكس.. النسائم الأخيرة لأهل البحر قبل الرحيل (ملف خاص)
"فينيسيا" بين الشرق والغرب.. كيف تجولت كاميرا السينما؟
"باي باي يا بحر".. أطفال المكس يودعون البراح واللعب على الرمل
في وداع المكس.. جولة لإلقاء النظرة الأخيرة على المنطقة التراثية
فيديو قد يعجبك: