"الحفيد الحارس".. تفاصيل اللمسات الأخيرة لصاحب خطة ترميم ونقل المومياوات الملكية
كتب- عبدالله عويس:
صهيل الخيول يتقاطع مع أصوات مناشير الخشب، وصياح عشرات العمال، ونغمات الهواتف المحمولة، وأحاديث الفنيين، ويطغى على ذلك كله بروفات مكبرات الصوت. يحدث ذلك في بقعة واحدة تقع إلى جانب المتحف المصري بالقاهرة، ويصل ذلك كله إلى أذن مصطفى إسماعيل، فيغلق عينيه لدقائق، ثم يستجمع تركيزه، ويدون عشرات الملاحظات في مذكرة لا تفارق يده أو جيبه. لا مساحة هنا لهامش خطأ، لا سبيل إلى تجربة أخرى، في غضون ساعات سيشاهد العالم أجمع، وقائع نقل مومياوات ملوك الفراعنة من المتحف المصري، إلى مستقرها الأخير، بالمتحف القومي للحضارة المصرية بالفسطاط، ومصطفى مسؤول عن سلامة الملوك، منذ أُوكلت إليه مهمة دراسة حالتهم وترميمهم وإيصالهم إلى الحضانات بمخزنهم في المتحف الجديد تمهيدا لعرضهم للمصريين وغيرهم.
ساعات قليلة تفصل عن نقل 22 مومياء من ملوك الفراعنة، في السبت مساء الغد، الذي يوافق الـ3 من إبريل الجاري، وما يزال مصطفى الذي يعمل مديرا لوحدة المومياوات، ورئيس معمل صيانتها بالمتحف القومي للحضارة، يدون الملاحظات، ويقدم التوصيات، وكله قلق وتوتر من تلك اللحظة، التي يعدها الأهم في حياته، فابن الـ35عاما كان يتعامل لمئات الأيام وجها لوجه مع ملوك الفراعنة، تلامس أنامله أجسادهم، يدعم أجسادهم بما يقويها، يتخير لهم المواد اللازمة لنقلهم دون أي ضرر. وفي حضرة الملوك كان الشاب يحرص كل الحرص على حمايتهم، فيقضى ساعات طويلة من يومه بينهم، مُرمما ودارسا ومُجربا، لأجل هذه اللحظة الحاسمة.
على مركبة تحمل اسم الملك رمسيس الثاني، يقف خريج كلية الآثار، والحاصل على درجة الماجستير، وهو على وشك الحصول على درجة الدكتوراة في رسالة عن ترميم المومياوات. يتحدث مع العمال، يعاين مقاسات العربة، يتأكد من جاهزيتها لعملية النقل، وسبق أن طلب تعديلات وصلت إلى خمس مرات، ولا مجال هنا لمعارضته، فهو صاحب خطة النقل، والأكثر دراية بها، وبكافة تفاصيل المومياوات وما يليق بها: «نحن على بعد ساعات من حدث، ربما سأتفاخر به طيلة حياتي، كل ما أتمناه التوفيق». هذه الأمنية تردِ على كل لسان يخاطب مصطفى، بداية من زوجته التي تعمل في الآثار أيضا، مرورا بأطفاله الثلاثة، ومديريه في العمل، وزملائه الذين يستمعون إلى توجيهه وإرشاداته.
مركبات تصطف إلى جوار بعضها، تحمل كل واحدة منها اسم ملك أو ملكة، وخيول ستجر عربات تشبه تلك التي كان يستخدمها الفراعنة، وعمال ينتشرون بين ذلك كله لإتمام المهمة على أكمل وجه. كل شيء يبدو جاهزا، الكل مطمئن، سوى مصطفى، سيطمئن قلبه فقط حين تصل المومياوات إلى مستقرها بالمتحف القومي للحضارة، هناك سيعرف قيمة الانتصار، وأهمية الدراسة والتخطيط، وضرورة الإخلاص في العمل: «يبدو كل شيء على أكمل وجه، لكن الإنسان بطبعه قلق، مهما كان متقنا في عمله، وبشكل ما أُعد أنا حارس الملوك والمسؤول عنهم».
في عام 2017، أسند إلى مصطفى مهمة دراسة حالة المومياوات، ظل على مدار 20 شهرا يعاينها، يفحص نقاط القوة والضعف، يختبر الدعامات الخاصة بكل مومياء. يكتشف أمورا مذهلة، وتصدمه أمور أخرى، مثل المومياء التي يزيد عدد قطعها عن 150 قطعة، وعليه أن يعيد جمعها على نحو سليم، وربما كان الملك رمسيس السادس أكثر مومياء عانى معها مصطفى، لكنه فخور بذلك، إذ أنها ولأول مرة في التاريخ ستعرض بشكل كامل للجمهور: «تتعامل مع التاريخ، وبين يديك أجساد الفراعنة، الأمر ليس بالهين». ولذلك كانت الدراسة أصعب مرحلة مر بها مصطفى، واستعان فيها بالدكتورة ولاء صلاح وإيمان إبراهيم، وكلاهما يعمل أخصائي ترميم مومياوات.
في الغرفة 55 بالمتحف المصري، عايش الشباب ملوك الفراعنة لأيام طويلة، تخطت الألف يوما، وقدم لهم الدعامات اللازمة، والمواد التي تحفظ أجسادهم، من مكونات طبيعية استخدمها الأجداد، ومكونات أخرى تعرف عليها الأحفاد، وقام بتجربة الأمر على نماذج لكائنات حية، يتم تحنيطها، ويتم بواسطة أدوات جعلها في مثل حالة المومياوات في القدم، وبنجاح التجربة يطور المواد لتصلح لكل مومياء. يضحك مصطفى وهو يتذكر رد فعل زملائه حين كان يلقي السلام على الملوك أمامه، ويستأذنهم في فحص أجسادهم، كان يرى أن للأمر مهابة كبيرة، وللملوك جلالهم، وهو حفيد من بنوا الأهرامات وشيدوا معجزات بشرية، ما تزال صامدة وباقية.
«وحين أصبحت المومياوات جاهزة، كان علينا أن نحفظها في مكان لا يسمح بأي خلل، وهنا كانت الفكرة التي تطبق لأول مرة، وهي كبسولات النيتروجين لنقل المومياوات» يحكي مصطفى، الذي راح يشرح آلية الكبسولة، فبداخلها مواد طبيعية تم أخذ مقاسها وفقا لجسد كل مومياء، ثم وضعت في كبسولات، ضُخ النيتروجين فيها، فلا تتعرض لتلف ميكروبيولوجي، أو تلف حشري، ثم ضُبطت درجات الحرارة، ودرجات الرطوبة، وعوامل الترطيب، بما يتوافق مع كل مومياء، من ملوك الرفاعة البالغ عددهم 22 مومياء، وهم «رمسيس الثاني، رمسيس الثالث، رمسيس الرابع، رمسيس الخامس، رمسيس السادس، رمسيس التاسع، تحتمس الثاني، تحتمس الأول، تحتمس الثالث، تحتمس الرابع، سقنن رع، حتشبسوت، أمنحتب الأول، أمنحتب الثاني، أمنحتب الثالث، أحمس نفرتاري، ميريت آمون، سبتاح، مرنبتاح، الملكة تي، سيتي الأول وسيتي الثاني».
يتذكر الشاب ساعات العمل الشاقة، وليالي السهر، وابتعاده عن منزله في حي الشرابية، وغيابه عن أهله لساعات طويلة، والأبحاث التي قرأها، والمواد التي استعان بها، ومئات التجارب، والكلمات التي كانت تحفزه للعمل، والأخرى التي كانت تثبط من عزيمته أحيانا: «قال لي أحدهم ذات مرة، اهرب من تلك المسؤولية، هذه المرة الفريق كله مصري، وربما يقع خطأ وسيكون ذلك على عاتقك» لكن ذلك زاد إصرار الشاب، وإن كان في الأمر خطورته، لكنه كان على ثقة بما بفعل، وبخبرته التي كانت تنقل إليه أثناء عمله مع البعثات، وتجاربه في الترميم قبل ذلك.
ينظر مصطفى إلى ساعته، عقاربها تقترب من العاشرة مساء الأربعاء، آخر أيام شهر مارس، ثمة بروفة ستحدث الآن على عملية النقل، وهي ليست الأولى سبقتها عشرات البروفات، وفي كل مرة كان الشاب يخشى وقوع طارئ، لكن ذلك لم يحدث. يشير بيده إلى المتحف المصري، قبل أن يتحدث: «هناك عملية تسمى الترصيص، بعد وضع المومياوات في الصناديق الخاصة بها، تغلق ولا تفتح إلا بعد وصولها إلى المتحف القومي للحضارة وبوجود لجنة مختصة». يطيل الشاب النظر إلى المتحف المصري، قبل أن يخبره أحدهم بأن البروفة ستقام الآن: فيخرج مصطفى المذكرة والقلم ويمضي إليهم.
ستخرج المومياوات من المتحف المصري، ثم توضع داخل كل واحدة بعربة تحمل اسمها، وبداخل كل عربة صندوق مخصص، وبالتالي فإن المومياء التي بداخل صندوق، ستوضع في صندوق آخر، وتم دراسة الاهتزازت، والصدمات، وعمل الشاب على آلية تحول دون حدوث ذلك: «نسبة الاهتزازات تصل إلى الصفر، وضعنا دعامات داخلية، ونستطيع التحكم في الاهتزازات الرأسية والأفقية». وتستغرق الرحلة نحو 40 دقيقة، سيكون سائق العربة فيها إلى جانب أخصائي ترميم، يوجهه، بحيث لا تزيد السرعة عن 15 كيلو مترا في الساعة، وتتحرك المومياوات، خلف العربات الحربية التي تجرها الخيول، من المتحف المصري، وتخرج إلى ميدان التحرير، حيث مسلة فرعونية تتوسطه، وزينت لهم الشوارع بما يليق بملوك حكموا هذه الدولة يوما ما، ثم تتحرك بمحاذاه كورنيش النيل، وصولا لحي السيدة زينب، ثم إلى مصر القديمة، وصولا إلى منطقة الفسطاط، انتهاء بالمتحف القومي للحضارة: «وفي كل خطوة سيكون قلبي بين السماء والأرض، درست كل شيء في الخطة، وأعددت كل شيء على أتم وجه، لكن القلق يظل موجودا وأنت تتعامل مع ملوك، هم أجدادك قبل أي أعتبار آخر».
منذ قام مصطفى بإغلاق الصناديق الخاصة بكل مومياء في المتحف المصري، وهو يعمل ليل نهار داخل المتحف القومي للحضارة، على تهيئة مخزن المومياوات وأماكن الحضانات الخاصة بهم، فحين تصل إلى المتحف، سيتعين عليه أن يفتح كبسولة النيتروجين، وهي بيئة خاملة، وستخرج إلى بيئة أخرى مختلفة، وهو ما يعرضها إلى عوامل خطيرة، قد تكون سببا في إتلاف المومياوات، ولذلك كان عليه تجهيز المكان منذ 7 أشهر مضت، وحتى اللحظة، وقام بترتيب الحضانات ترتيبا تاريخيا، الأقدم فالأقدم: «سنقوم بإخراج المومياوات من الكبسولة، فتجد كل مومياء نفسها في نفس البيئة التي كانت فيها بالكبسولة، وهذا لم يكن أمرا هينا، وكان يحتاج إلى ترتيبات كبيرة وضخمة». قالها وهو يغادر المتحف القومي للحضارة مساء الخميس، في طريقه إلى المتحف المصري بالتحرير لإجراء بروفة أخرى على عملية النقل، وهي البروفة الأخيرة.
مساء الجمعة، تبقت ساعات قليلة على الموكب، ومصطفى بالمتحف المصري بالقاهرة، يشرف على عملية تحريك المومياوات من مكان تخزينها، تمهيدا لإنزالها على مقربة من العربات التي ستنقلها. جرى الأمر مبكرا كي لا يكون هناك ضغط كبير يوم التنفيذ، فمع الوقت المحدد لبدء الموكب ستكون المومياوات أقرب إلى العربات: «سيكون ذلك أفضل بالنسبة لنا، وما تم في بروفة الأمس، الخميس، هو نتاج عشرات البروفات».
سيخرج الملوك، وستطلق المدفعية 21 طلقة في الهواء، وتتابع 400 قناة تلفزيونة، عالمية وعربية الحدث، وسيتم البث بشكل مباشر، وسيشارك فنانون وطلاب وفرق استعراضية خلال الحدث، وبحضور كبار الدولة المصرية، بعد أن كانت هناك حملة دعائية مكبرة للحدث، بإنتاج مواد وأفلام ترويجية ترجمت إلى 14 لغة، ومنحت تخفيضات بنسبة 50% على تذاكر المتحف القومي للحضارة على مدار أسبوعين، للأجانب والمصريين. حدث سينتظره العالم كله، وستتحول الأنظار فيه إلى مصر، وسيكون مصطفى بين ذلك كله في انتظار إتمام المهمة: «ستكون هذه اللحظات هي الأسعد في حياتي، كل الشقاء والتعب سيكون هينا بنجاح الخطة التي وضعناها».
18 ملكا، و4 ملكات، سيتم نقلهم، واكتشف أكثرهم في الخبيئة الأولى بمقبرة أثرية تقع إلى جوار الدير البحري في جبانة طيبة، غرب الأقصر بصعيد مصر، عام 1881، وكانت الخبيئة الثانية في مقبرة الملك أمنحتب الثاني، في وادي الملوك بالأقصر، واكتشفت عام 1898، ونقلت إلى متحف بولاق، ثم إلى متحف قصر المنيل، ومنه إلى المتحف المصري، ثم إلى متحف سعد زغلول، ثم عادت مرة أخرى إلى المتحف المصري، ومنه ستنطلق إلى رحلتها الأخيرة، للمتحف القومي للحضارات: «وبوصولها، ستدخل إلى الحضانات، وستظل هناك لمدة 14 يوم تقريبا، ثم ستوضع في فتارين العرض بقاعة المومياوات» وسيكون ذلك في الـ18 من إبريل الجاري، وهو اليوم الذي يوافق، يوم التراث العالمي.
نقل المومياوات إلى الفتارين يتطلب عناية فائقة، يتم قياس الفاترينة، ولكل واحدة منها نظام خاص، يناسب طبيعة كل مومياء، ويوزع حملها على نقاط مختلفة داخل الفاترينة كي لا تتأثر. ربما سيقف مصطفى ذات يوم أمام الفتارين، ومعه أولاده، لا يعرفه الواقفون إلى جواره، ولا يعرف أحدهم أنه صاحب خطة الترميم والصيانة والنقل، لكنه سيكون على دراية بكل التفاصيل، ومعه أولاده، يحدثهم عن تاريخه مع تلك المومياوات، وعن الأيام التي قضاها برفقتهم، وكيف كان وزملاؤه لا يدخرون جهدا لإتمام هذا العمل على أكمل وجه، بما يليق بعظمة أجدادهم، ويحدثهم كذلك عن تاريخ مصر، وتاريخ كل ملك وملكة على حدة، تماما كما كان يفعل في طفولته، وهو يمسك كتب التاريخ التي دفعته إلى محبة ذلك العالم، الذي تماهى معه إلى الحد الذي جعله يلامس بأنامله أجساد ملوك الفراعنة.
فيديو قد يعجبك: