بالصور: في رأس غارب.. الكارثة حاضرة والحكومة "غياب"
كتبت-دعاء الفولي:
منذ خمسين عاما يعيش خالد سامي في مدينة رأس غارب التابعة لمحافظة البحر الأحمر. غير أنه بالأمس فقط عاش عمرا اجتمعت فيه أسوأ كوابيسه. عانى الرجل الأمرّين، فبينما عائلته فقدت منزلها القابع بمنطقة "الحج نور"، ذهب سامي ليُساعد الآخرين "اللي شفته ميتحكيش.. كنا بنطلع الجثث اللي بتطفوا على وش البحر وبنحاول نشدهم من بين الطين". مازال ابن المنطقة يتحرك من حي منكوب لآخر ليُساعد، فقد استقر في قناعته أن يد الدولة بعيدة عن إنقاذهم مما هم فيه.
ليل أمس الأول ضربت "رأس غارب" سيول قادمة من جبل الشيخ فضل غربي المدينة. اجتاحت المياه أكثر من نصف المدينة، ابتلع السيل السيارات والبيوت. مات البعض دون فرصة لمعرفة ما يجري، حتى بلغ عدد المتوفين إلى 10 حالات، مقابل عشرات المُصابين الذين تم نقلهم لمستشفى رأس غارب المركزي.
استيقظ مصطفى-أحد سكان منطقة محطة الكهرباء برأس غارب- ليلة الجمعة على صوت خرير ماء قوي، الظلام دامس، أبنائه يبكون، زوجته تُنادي مستغيثة، ووالدته تصرخ "كان عامل زي يوم القيامة". القدر فقط أنقذ الرجل، إذ كان ماكثا في الدور الثاني داخل منزله المكون من ثلاثة طوابق، بصحبة إخوته الثلاثة وزوجاتهم وأولادهم هرب الجميع للأعلى، احتموا بالسطح حتى أتاهم الغوث في الصباح التالي، غير أن مصطفى ذو الاثنين وثلاثين عاما لم يرض مشاهدة المأساة دون تقديم العون.
من منزل لآخر تنقل الرجل، تارة بزورق أو بسيارة دفع رباعي، باحثا عن مستغيث، أو موفرا وسيلة نقل. لم تكن المياه وحدها هي الأزمة، فقد شب حريق بالطابق الثاني في منزل جاره، اتصل الأهالي بالإطفاء "فوجئنا إن عربية مطافي جاتلنا ومعهاش ماية"، حاول مصطفى ومن معه إخراج الأسرة ونجحوا، وأُصيب هو بجرح في القدم.
صباح اليوم توجه رئيس الوزراء، شريف إسماعيل، ومحافظ البحر الأحمر، اللواء أحمد عبد الله إلى رأس غارب لتفقد الأحوال، إلا أن ذلك لم يُطفئ من غضب الناس الذين تطوع كثير منهم لتخفيف الأزمة بمجهودات ذاتية.
"تقريبا كل ساعة بتيجي عربية محملة أكل"، يقول أحمد القوسي، أحد أهالي المنطقة. يؤكد الشاب أن المعونات تأتي من كل مكان على صور عدة "معدات وبطاطين وأدوية"، أما السولار فقد حصل عليه أهل المدينة من إحدى شركات البترول الموجودة هناك "لولاها مكنش بقى عندنا عربيات تمشي تاخد الناس"، لكن القوسي يجزم بعدم استمرار الوضع على ذلك النحو "ساعات ومش هيبقى عندنا حتى بنزين نشغل بيه أي معدات".
بمجرد أن بدأ الحشد لمساعدة المتضررين في رأس غارب، اطمئن خالد على أسرته، ثم انطلق "بقيت أروح المستشفى المركزي أشوف لو فيه حالات جديدة وندور على الأهل أو نروح البحر ندور". خمسة جثث استخرجهم الرجل الخمسيني منذ الأمس، بينهم رجال ونساء. تبعد منطقة الحج نور حيث يقطن عن البحر بحوالي 3 كيلو، إلا أن مشهد المياه جعل التنقل أصعب "دول مش شوية مطر دة كأنه تسونامي" يضيف لمصراوي.
بينما يبحث خالد عمّن يساعدهم كان أحد عشر شخصا من الهلال الأحمر المصري قد وصلوا للمنطقة المنكوبة قادمين من الغردقة، يقودهم أحمد الطيب. أسطح البيوت فقط كانت ظاهرة حينما بزغت شمس يوم الجمعة "حاولنا ننقل الناس لمدرستين في مناطق عالية شوية وفيهم امان".
صرّح وحيد سعودي، المتحدث باسم هيئة الأرصاد، أمس، أن الهيئة حذرت من سيول مُرتقبة منذ شهر كامل "وناشدنا كل المحافظين وقتها باتخاذ التدابير اللازمة". يقول القوسي أنه اتصل ببعض المسئولين بالفعل عقب الحادث بساعات قليلة "وأكدوا إنهم هيتحركوا"، فيما لم تصل المساعدات إلا عقب حوالي 24 ساعة.
في منطقة رأس غارب المتضررة لم يكن استياء البعض سببه المياه فقط، بل ما جلبته معها "رصدنا وجود تعابين وعقارب مجروفة من الجبل دة غير الطمي اللي بيصعّب علينا إخراج الجثث أو الإنقاذ"، يقول قائد فريق الهلال الأحمر إنهم تواصلوا مع مستشفى رأس غارب فأكدوا لهم تواجد مصل الثعابين حال حدوث أي أذى.
أطعمة تُصنع في المنازل، ومراكب، ومراتب وأشياء أخرى تبرّع بها المواطنون في "غارب"، ورغم تواجد إسلام محمد-أحد أهالي المنطقة-بالغردقة وقت الحادث، فقد قرر مع أصدقائه إنشاء غرفة عمليات على الإنترنت هدفها إرشاد الضائعين للأماكن الأكثر أمنا، يروي إسلام أنه عقب اجتياح المياه بساعات سادت حالة الهلع، وظن كثيرون أن البلد غرق بالكامل "بس دة مكنش صح.. فيه اماكن عالية زي التعاون مجرالهاش حاجة".
على صفحته الشخصية وضع إسلام أرقام تليفونات له ولآخرين موجودين في أماكن متفرقة من غارب "بقينا نتلقى تبرعات ونوصلها ونكلم الناس نطمنهم أو نكلف الشباب يتحركوا". حوالي 600 شاب من الغردقة وما حولها ذهبوا للمنطقة بالأمس لتقديم المُستطاع، بينما لحق بهم إسلام منذ ساعات قليلة حينما خفت الضجة بغرفة العمليات.
شركات البترول هي الأكثر تواجدا في "رأس غارب" البالغ عدد سكانها حوالي 100 ألف نسمة، لذلك يقول خالد إن الدولة كان عليها الاهتمام بشكل أكبر، إن لم يكن خوفا من الخسائر البشرية فللخسائر المادية "كانوا ممكن يحطوا مخرات قبل البلد ينزل فيها السيل لو الحكومة معرفتش إن فيه سيل.. احنا اللي هنعرف؟".
لم يعتَد مصطفى بعد على استخراج جثث الموتى، إلا ان الأزمة لم تترك له خيارا. غاص الدور الأول من منزله بالكامل كما حدث لآخرين، لا يعرف ماذا سيحدث مع استمرار انقطاع الكهرباء لأجل غير مسمى، يسمع معلومة من هُنا وهُناك، تتوارد المساعدات، ينتظر تصريحات قد تُنبئ بتعويضات، بينما تخبره والدته أن السيل زار البلد من قبل في السبعينات "كان عدد البيوت قليل بس دلوقتي الخراب ملوش آخر".
فيديو قد يعجبك: