حكايات مُحبي التوني.. "جايين لاجل خاطرك يا شيخنا"
كتبت-دعاء الفولي:
حين كان عمره 12 عاما، فرّ محمد عبد الراضي من المدرسة، استقلّ القطار من أسيوط لأسوان رفقة 5 من أصدقائه، سألوا عن حفل المنشد أحمد التوني، شقّوا طريقهم بين الحشود حتى وصلوا أمام المسرح، جلسوا مشدوهين، قبل أن يراهم الشيخ قائلا: "بتعملوا إيه هنا يا مجانين"، فيرد عبد الراضي سريعا: "جايين لاجل خاطرك يا شيخنا".
عام 2014 تُوفي الشيخ التوني في الخامسة والثمانين. ترك وراءه مُحبين كُثر، قصصهم التي عايشوها معه حاضرة، يروونها حين اللزوم، كأنه ترك تفاصيل أكثر رحابة من الأناشيد والغناء.
20 مترا فقط كانت تفصل منزل عبد الراضي عن بيت الشيخ الراحل "كنت أتسحّب ساعات وأروح أخبط على بابهم". لم يكن ابن قرية الحواتكة بمركز منفلوط بمحافظة أسيوط، ليفوّت فرص لقاء التوني، تسلل مرارا لجلساته، سمع تاريخ حياته أكثر من مرة.
لم تكن طفولة الشيخ رغدة، أنهى حفظ القرآن مُبكرا، عَمِل في عدة أشياء، إلا أن الربح ظل ضعيفا؛ ففي أحد المرات وبينما هو شاب كان يبيع ويشتري القصب "بس بعد فترة لقى إنه الفلوس اللي بدأ بيها ثابتة"، حسبما يحكي أسامة علي، أحد أبناء قرية الحواتكة التي وُلد فيها الشيخ الراحل.
رغم أن عُمره أربعين عاما، إلا أن علي ذكر باللفتة حكايات التوني، يفخر بما سمع ورأى، فيما يقول "احنا بلدنا أصلها مشهور بالتصوف حتى من قبل الشيخ التوني ومن بعديه عندنا المنشد ياسين التهامي".
بدأت علاقة التوني بالإنشاد من خلال شيخه الشبيكي "كان يروح وراه في موالد كتير" على حد قول عبد الراضي، الذي كان يفعل المثل أيضا مع التوني. يضحك الموظف صاحب الأربعين عاما؛ إذ طرده ليومين خارج البيت مرّة بسبب هروبه المتكرر من المدرسة وذهابه للحفلات "قاللي إبقى خلي الشيخ التوني ينفعك".
https://soundcloud.com/rodaina-gamal-ii/pcgdxmwxg4tt
على المسرح كان التوني يُحرك رأسه في تناغم، ينسى من حوله تماما، يُمسك بالمسبحة، ويقرع كأسا صغيرة بيده فتختلط بصوته الشجيّ. المرة الأولى التي سمعه فيها عليّ "كان عامل ليلة جنب بيتي تبع مولد سيدي أبو الحسن المحمدي"، وقتها شعر ابن أسيوط كأن جسد التوني يفنى "كأنه بيغنّي لناس مش موجودة معانا"، مازالت الأناشيد تتردد في ذهنه؛ أهل الكرم، ناديت، "كريمة ياللي مقامك حلو" وغيرهم.
ظل منزل التوني مفتوحا طوال حياته وبعد الممات، يستقبل الوافدين من جميع المحافظات، فالشيخ له في كل مكان نادرة "كتير من الكلام اللي كان بيقوله في الليالي لسة فاكره لدلوقتي"، يحكي عبد الراضي عن إحياء الشيخ لليلة أحد الأولياء ويُدعى "فرغل"؛ وقتها بدأ التغنّي من التاسعة مساءً ولم يتوقف إلا مع آذان الفجر "كانت الناس تسكر من حلاوة صوته"، وما أن طلع ضوء الصبح، حتى قال التوني بسعادة :"صباحية مباركة يا فرغل.. مدد يا سيدي الحسين، والله إن عشت تاني لاجيلكم بدل المرة مرتين".
لا ترتبط حكايات المحبين بالإنشاد فقط "الشيخ كان دايما يقول: المهم أبقى مستور"، يروي عليّ أن التوني لم يكن ينظر للمبلغ الذي حصل عليه بعد الإنشاد "وحكى لنا إنه ساعات كان يروح ببلاش عشان عايز يمدح النبي ويوصل رسالته"، رُبما شغف التوني بما يقدم كان السبب لينتشر في الدول المختلفة، العربي منها والغربي.
"أول مهرجان راحه كان في أسبانيا".. يذكر عبد الراضي وعليّ تلك الفترة جيدا، غمر التعجب آل القرية "مكناش فاهمين إزاي شيخ يتطلب منه يسافر يغني للأجانب"، لكن التوني مبدأه واحد "التصوف مربوط عنده بالسلام والسلام مش محتاج ناس بيتكلموا نفس اللغة عشان يفهموه"، مع الوقت تحول العجب لفخر "بقت الصحافة والتليفزيون ييجوا عندنا ويكتبوا عنه".
في السابعة عشر من مارس 2014، كان عبد الراضي في عمله "لما رجعت القرية بعد العصر لقيت الناس مرصوصة على المدخل بتاعها"، غاص قلب الرجل، إذ يعلم أن الناس لا تخرج هكذا إلا عند المصائب"لما قالولي إن الشيخ مات مصدقتش"، ظل عبد الراضي تائها، حتى جاء ولداه محمد ومحمود التوني ومعهم الشيخ ياسين التهامي الذي يعيش بنفس القرية "قالوا إنهم هيدفنوا جثمانه في نفس اليوم.. انا شفت يومها ناس من كل مصر جاية تمشي في جنازته".
كل عام تعود سيرة الشيخ للحياة بشكل مختلف؛ تارة يجتمع أبناء قرية الحواتكة في مركز الشباب لذبح العجول وتوزيعها، أخرى يجلس مُحبوه ليسمعوه، كما فعل عليّ أمس، أو يأتي بعض المنشدين ليتغنّوا بأناشيده، أما عبد الراضي فلا يقنع بذلك "ميملاش عيني غير صوته.. ده انا محتفظ بـ22 شريط ليه منهم حاجات نادرة". الأيام لم تمحُ ذاكرة عبد الراضي وعليّ؛ مظهر الشيخ البسيط في المنزل وحوله الناس، كلماته التي تمس القلوب، حنجرته إذ تُغنّي "مدد"، روحه المتصوّفة، وقلبه الذي يسع ألفا من الأحباب.
فيديو قد يعجبك: