إعلان

فك شفرات المجتمع الإيراني

الكاتب الصحفي الدكتور ياسر ثابت

فك شفرات المجتمع الإيراني

د. ياسر ثابت
07:07 م الثلاثاء 04 مارس 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تحتل السينما الإيرانية منزلة رفيعة داخل المدونة السينمائية العالمية، كونها ضمن الأكثر تأثيرًا في الفن السابع على المستوى الدولي. وقد استطاعت على مدار أعوام من تشكلها التأثير في ذائقة المتلقي على خلفية كونها سينما أصيلة من حيث الكم والنوعية.

تعمل السينما الإيرانية بدرجة أولى على استلهام الواقع الاجتماعي الإيراني، فهي سينما غير معنية بالآخر، بل يتعمد مخرجون مثل عباس كيارستامي وأصغر فرهادي ومحمد رسولوف وغيرهم على جعل الواقع الإيراني مختبرًا للتفكير والتأمل. واختيار الواقع لم تُمله فقط هواجس فنية ودوافع جمالية، وإنما ميكانيزمات سياسية أيديولوجية تجعل المخرج يلج عالم السياسة انطلاقًا من فعل الصورة.

ويأتي كتاب «السينما والمجتمع الإيراني» (دار المحرر، 2025) للباحثة إسراء عصام ليقدِّم إضافة بالغة الأهمية إلى الدراسات السينمائية باللغة العربية عن السينما الإيرانية.

تحاول المؤلفة في هذا الكتاب فك شفرات المجتمع الإيراني وتفسير الظواهر الاجتماعية في هذا المجتمع الإيراني من خلال الفن السينمائي، ومن خلال العودة إلى أصول تلك الظواهر، وأسبابها، ونتائجها، وميكانيزمات الهوية المجتمعية التي تعاملت معها وكيف واجهتها في فنها وأعمالها، وهل حاولت فهمها والتحايل عليها وإن طالتها يد الرقيب، أم تجاهلتها تحت بند الخوف من السلطة الحاكمة وبطشها (ص 11).

بمعنى آخر، يناقش الكتاب -عبر 172 صفحة- مدى الارتباط الوثيق بين ظواهر المجتمع واحتياجاته النفسية والسوسيولوجية، وبين ترجمة هذه الظواهر بمفردات ولغة سينمائية يوثق لها المجتمع في صورة فنية عبر السنين.

تلاحظ المؤلفة أن السينما الإيرانية تعتمد على التفاصيل الصغيرة، وعلى الإيحاء بدلًا من التصريح علانية، وعلى العمق النفسي بدلًا من الأحداث الصاخبة، وعلى الرمزية بدلًا من الحوار السردي، وعلى النظرات والملامح التعبيرية الأكثر جرأة من أي خطاب نقدي.

ويُحاول كتاب «السينما والمجتمع الإيراني» عرضَ ما يشهدُه الواقعُ الإيرانيّ من ظواهرَ ومتغيراتٍ اجتماعيةٍ مرَّ بها على مدار عقوده، وهي متغيّرات لم تكُن الثورة الإيرانية عام 1979 نواتَها الوحيدةَ، وإنما تراكمات تكوّنت نتاج أسباب كثيرة، من بينها صراعاتُ الهوية القائمة بداخل تعددية هذا المجتمع، وما ساهمت به المَلكية من خلق بُذور الكثير من الأمراضِ الاجتماعية، والتي نَضجت فيما بعد وعبَّرت عن نفسها بصورة صريحة إبّان الثورة الإيرانية.

تضع المؤلفة يدها على مسألة الازدواجية الأخلاقية قبيل الثورة الإيرانية؛ بدءًا بشاه إيران الأخير محمد رضا بهلوي وسياسات الانفتاح والحرية على العالم الخارجي. وتقول: «لذا كان نمط الحياة الغربية المستوردة إلى هذا المجتمع إضافة إلى وضع القيود بصفة مستمرة حول رجال الدين بمنزلة دعوة إلى التناقض الأخلاقي، وما صاحبه بعد ذلك من سلوكيات تحافظ بجدارة على التدين الشكلي الظاهري رغم ما قد تمارسه الشخصية في الخفاء من انحراف أخلاقي نتاج الحرية المفاجئة والجديدة بعد كبتٍ وفقر» (ص 12).

تشرح إسراء عصام وتُشرِّح جذور التحول الاجتماعي مرورًا ببدايات ظهور السينما الإيرانية ومحاكاتها لسينما الدول الأوروبية، ثم أخيرًا بانتهاجها أسلوبها السينمائي الخاص. وتُركز الباحثة على أنه رغم كل ما يواجهه المجتمع الإيراني، فإن السينما الإيرانية خلقت بجدارة مفهوم سينما الإنسان.

نطالع في الكتاب فصلًا تحت عنوان «بدايات السينما وتاريخها» بدءًا من تصوير أفلام قصيرة جدًا مدتها دقيقة وأقل من ذلك من خلال الكاميرا غومون، والأعمال التصويرية التي قام بها ميرزا إبراهيم خان عكاس باشي، وقد شكلت هذه الوثائق والمشاهد سجلًا توثيقيًا مهمًا للتاريخ الإيراني، وإنشاء أول دار للسينما بين عامي 1903 و104، ليتوالى بعد ذلك إنشاء صالات العرض السينمائي بحلول عام 1912.

تحولت مشاهد السينما الإيرانية تحولًا كبيرًا عند تولي رضا شاه للحُكم، وقد نالت الأفلام الخيرية اهتمامًا كبيرًا في عهده، كما أولت الحكومة في عهده اهتمامًا كبيرًا للأفلام الروائية مع منحها جوائز.

تشكلت السينما الإيرانية -حينذاك- عن طريق التقليد والمحاكاة، وذلك مع عرض أول فيلم روائي صامت في عام 1930 داخل سينما «بالاك» وهو فيلم «آبي ورابي» من إخراج أفانيس أوهانيان، وهو إعادة صناعة لفيلم كوميدي دنماركي اسمه «بات وباتشون». بعد عامين من عرض فيلم «آبي ورابي»، قدَّم هذا المخرج فيلمه الطويل الثاني بعنوان «حاجي آغا آكتور».

وجاء فيلم «البنت اللورية» («دُختَر لُر») -وهو أول فيلم إيراني ناطق- حول فتاة من محافظة «لورستان»، ليحكي قصة شعبية من الفلكلور الإيراني، بمعالجة تتناول موضوعات وظواهر اجتماعية منها تحرر المرأة.

حدث توقف سينمائي داخل المجتمع الإيراني في الفترة من 1938 وحتى عام 1948 بسبب الحرب العالمية الثانية وما بعدها، حتى عادت السينما الإيرانية بعد توقف دام 11 عامًا من خلال فيلم «عاصفة الحياة».

وفي ظل التغيرات السياسية والاجتماعية في إيران ما بين عامي 1948 و1953 إلى إنتاج 29 فيلمًا روائيًا، خرجت بلا إشارة إلى تلك الأحداث المهمة التي عصفت بالمجتمع.

تطورت السينما الإيرانية في خمسينيات القرن العشرين، لكنها بدت متواضعة المستوى بحسب النقاد، أما في الستينيات المضطربة على المستوى السياسي في إيران، فقد اتخذت السينما الإيرانية أسلوب محاكاة للنموذج الهولييودي، لتستلهم معظم أعمالها من الموجة الإيطالية والفرنسية الحديثة.

تناولت الباحثة بالتفصيل التأثير الاجتماعي والسياسي إبان الثورة الإيرانية على الأطفال من خلال تحليل بعض الأفلام الإيرانية مثل: العداء «دونده» لمخرجه أمير نادري، و«باشو الغريب الصغير»، و«دار الأيتام الإيراني»، و«أطفال السماء».

وناقشت إسراء عصام في فصل آخر التحديات الاجتماعية والدينية التي تواجهها المرأة في إيران، مثل تزويج القاصرات والاتجار بالأطفال، وهو ما نراه في أفلام مثل «سجن النساء»، و«رجم ثريا»، و«انفصال» للمخرج أصغر فرهادي، و«عروس»، و«أحمر»، و«هذه المرأة تريد حقها» للمخرج محسن توكلي، و«ستائر مغلقة»، و«تاكسي إيران»، إضافة إلى فيلم «زهـرة الأقحوان» الذي تناول قصة حبيبين كلٌّ منهما أعمى.

تطرق الكتاب إلى موضوعات مثل البغاء في فيلم «الدائرة» والسجينات في «سجن النساء» للمخرجة منيجة حكمت عام 2002.

ثمة اهتمام واضح بتجارب المخرجات السينمائيات في إيران، ومنهن مرضية برومند، التي تعد أول مخرجة بعد الثورة الإيرانية، لتتوالى بعدها قائمة المخرجات الإيرانيات، ومن أبرزهن: رخشان بني اعتماد التي أخرجت فيلمي «نرجس» و«والوشاح الأزرق»، وتهمينه ميلاني، وقد اشتهرت الأخيرة بقلمها الجريء وقضاياها النسوية التي تناولت مشكلات المرأة في المجتمع الإيراني.

اهتمت السينما الإيرانية أيضًا بقضايا اجتماعية جادة كما في فيلم داریوش مهرجویي «البقرة» الذي أنتج عام 1969. وامتلكت هذه السينما جرأة فتح ملف العنصرية العرقية ضد الأفغان في إيران والعدائية لغيرها من الأقليات، وهو ما نجده بوضوح في أفلام مثل «باران» للمخرج مجيد مجيدي، و«حيران» للمخرجة شاليزة عارف بور.

وناقشت السينما الإيرانية إشكالية التعايش السلمي لأبناء الديانات المختلفة تحت سماء وطن واحد، كما جرى في فيلم «طائر أبو الحناء» للمخرج برويز شيخ طادي.

تُركز المؤلفة بأسلوب شائق ولغة ثرية على محاولات للإصلاح المجتمعي الإيرانيّ -لا سيما في ظل الأحداث الراهنة ودور إيران الغامض بها- أكثر من كونه مرتكزًا على السينما أو صِناعتها، إنما كانت السينما وسيلةً وعينًا استخدمتْها الكاتبة لرؤية ورصد المجتمع الإيراني بعينِ أبنائه.

إنه ليس كتابًا عن السينما بقدر ما هو رؤية مجتمعيّة وقراءة سوسيولوجية تُحاول إسراء عصام من خلالها تحليل عناصر المجتمع الإيراني، واضعةً في اعتبارها عادات وتقاليد وموروثات هذا المجتمع وما نتج عنها، وضَفَّرت ذلك كله بمرجعيّة تاريخيّة.

إنه كتابٌ شامل عن الإبداع داخل غرفة بلا نوافذ!

إعلان

إعلان