إعلان

تنفيسة| سيرة صاحب القلم الذهبي.. أول من كتب عن البلاغة وجمودها (1 – 2)

محمد جادالله

تنفيسة| سيرة صاحب القلم الذهبي.. أول من كتب عن البلاغة وجمودها (1 – 2)

محمد جادالله
08:24 م الإثنين 07 أبريل 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

هو الكاتب الفنان ذو الأسلوب الموسيقي والتصوير الشعري. وهو أول كاتب في العصر الحديث يكتب عن البلاغة وجمودها، وهو أديب منشئ خَلاَق كتب في المقالة على اختلافها، وعُرِفَ عنه أنه كاتب مقال بالدرجة الأولى، وفي القصة بأنواعها، وأدب السيرة، وأدب الرحلة، والأدب الذاتي والموضوعي والاجتماعي والترجمة، فكان أديبًا واصفًا مبدعًا، إنه الأستاذ أحمد حسن الزيات. وضع الزيات منهجًا نقديًا جديدًا ولهذا لم يلزم نفسه بمدرسة معينة، ولكن مقدرته الفنية على الصياغة جعلت تعريفاته في النقد أشمل من غيره، وأنه أتى بالقديم في نظرة حديثة مثلما ما نجد في كتابه "دفاع عن البلاغة".

الزيات كاتب واسع الاطلاع شمولي التفكير، ويتميز بمخزون ثقافي كبير، وبالتالي فهو متعدد المذاهب متنوع الإبداع، اتخذ من الأدب وسيلة للدفاع عن قومه ومعتقده، وله مقدرة فنية على الصياغة مما جعل له أسلوبًا مميزًا لا يحتاج من القارئ إلى كبير عناء لتبيينه، وهذا يدل على التزامه طريقة واحدة في الصياغة، ونجد في أسلوبه الخيال والعطافة وإحساسًا وشعورًا هو ترجمة لخوارج التفكير، ولكن يغلب على أسلوبه المنطق.

أفاده الأزهر قوة الجدل، وأخذ من الجامعة المنهج العلمي، وتلقفته باريس فأضافت إلى ثقافته لونًا من العلم ليس غريبًا؛ وهو الترجمة الأدبية، فجاءت مترجماته فريدة في نوعها، فقد ترجم عددًا من القصص والروايات والقصائد، وكانت مترجماته مشابهة لتجاربه العاطفية والشخصية، وذلك بما يتلاءم مع طبيعة لغتنا العربية، مع حرصه على النص حرصًا شديدًا، وهذا ما جعل القارئ يستشعر أن ما يقرأه ليس مترجمًا، بل من تأليف كاتب عربي. وبلغ عدد مؤلفات الزيات تسعة كتب، ما بين التأليف والترجمة. على خلاف المقالات التي كان ينشرها في الصحافة المصرية وبالذات في مجلة الرسالة التي كان رئيسًا لتحريرها. وسنستعرض خلال السطور التالي المحطات التي مر بها الزيات، لنرى معها صورة صادقة لجراءة المفكر وحرية الأديب.

ولد الزيات في الثاني من إبريل لسنة 1885م في كفر ميرة بمحافظة الدقهلية، ودخل كُتَّاب القرية وهو في الخامسة من عمره. وقد وهب الله الزيات ذاكرة قوية وخطًا جميلًا، فلم يبلغ الحادية عشرة إلا وأتم حفظ القرآن الكريم. ثم أرسله أبوه إلى بلدة "الربع" بمحافظة الدقهلية، ليجود القرآن ويتعلم القراءات السبع عند فقيه آخر، وقد أتم ذلك في سنة واحدة.

ثم أرسله والده إلى الأزهر ليكمل تعليمه فيه وهذه أمنية أراد لابنه أن يحققها. وقد أمضى الزيات في الأزهر اثني عشر عامًا، كان يمضي نهاره في حلقة من حلقات الدراسة، فإذا فرغ من الدراسة توجه إلى البيت الذي يسكن فيه مع بعض زملائه من أهل قريته الذين يدرسون في الأزهر، ثم انتقل بعد ذلك إلى بيت أخته عندما عاد زوجها من السودان وأقام بالقاهرة.

وفي الأزهر عُرف عنه ميله إلى الأدب حتى لقد كانت دراسته للأدب وعلوم العربية من نحو وبلاغة وعروض وبيان أكثر من جانب الفقه. وهناك التقى بطه حسين ومحمود زناتي وقد دون بعض تاريخ هذه الحقبة في كتابه "وحي الرسالة". فقال: "كنا ثلاثة ألفت بيننا وحدة الطبع والهوى والسن، فالطبع مرح فكه، والهوى درس الأدب وقرض الشعر، والسن فتية لا تتجاوز السادسة عشرة، وكان طه قاعدة المثلث. ومحمود وانا ضلعيه القائمتين".

وقد حدث في أثناء دراسته في الأزهر، أن كان الشيخ المرصفي يدرس الكامل للمبرد وفيه خطبة للحجاج بن يوسف منها قوله: "ومما كفرت به الفقهاء الحجاج بن يوسف قوله ولناس يطفون بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.. إنما يطوفون بأعواد ورمة". قاصدًا قبر الرسول بالبقيع، وارتفعت أصوات تنادي بكفر الحجاج من أجل هذا التطاول، وتميز من بينها صوت معتدل فالزيات وطه والزناتي قالوا: "لا داعي للرمي بالكفر. إن أحدًا لا يماري في أن الرسول بشر، فالحجاج لم يكفر وإنما أساء الأدب". وشاعت قولتهم بين أرجاء الأزهر وتلقفها خصومهم الذين أشاعوا أن الثلاثة كفروا ووافقوا الحجاج. وهنا قامت ضجة ارتفعت على إثرها شكوى إلى شيخ الأزهر وكان في ذلك الوقت الشيخ حسونة النواوي.

وعقد لهم مجلس لمحاكمتهم وأصدر المجلس حكمه وكان قاسيًا، فقد حكم عليهم "بالقطع" وهو اصطلاح معناه قطع اسم المحكوم عليه من الأزهر أي شطبه من سجلاته وطرده. وهذه السنة التي صدر الحكم فيها هي بالذات السنة التي تقدموا فيها للامتحانات لنيل إجازة التدريس. إلا ان فترة الطرد لم تطل أكثر من أسبوع طافوا فيها بدور الصحف يتظلمون من ذلك الحكم فلم يجدوا نصيرًا إلا في الأستاذ أحمد لطفي السيد، وسمع لنا، وسمعنا منه. ثم قال بلهجته الرزينة: "إن الأمر أيسر من ذلك. ورفع سماعة التليفون وقال للشيخ حسونة النواوي، إن عندي ثلاثة طلاب الأزهر فصلتموهم لرأي رأوه، ولعل من الخير ألا تقتلوا في الشباب حرية الرأي ما دامت لا تخالف أصلًا من أصول العقيدة، ولا نصًا من نصوص الأحكام. وسأله أن يلغي قرار الفصل، ففعل".

ولكن عودتهم للأزهر لم تطل أيضًا فقد أصبحوا موضوع الأنظار وعرف أن رسوبهم في العالمية أمر مؤكد. وامتنع الزيات والزناتي عن دخول الامتحان في حين أصر طه حسين عليه، وكانت النتيجة قصته المعروفة ورسوبه المدبر. ولم يجد الثلاثة بدًا من ترك الأزهر بعد أن أيقنوا أنه لا بقاء لهم فيه فخرجوا إلى الشارع في غمرة الحياة. ولم يكن لهم هدف واضح، فكانوا يعكفون على الأسفار فقرأوا الأمالي والأغاني، والحماسة ودواوين الشعراء الفحول وغيرها من أمهات الكتاب حتى إذا أنشئت الجامعة الأهلية سنة 1908م، سارعوا إلى الالتحاق بها. ولقد تتلمذ الزيات على عدد من المستشرقين الذين كانوا يدرسون في هذه الجامعة الناشئة آنذاك.

وفي سنة 1907م، عمل الزيات مدرسًا للغة العربية بمدرسة الفرير بالخرنفش نحو سبع سنوات، علم فيها العربية، وتعلم الفرنسية. وفي سنة 1914م انتقل الزيات للتدريس في المدرسة الإعدادية الثانوية بالظاهر، وظل بها حتى سنة 1922م، ثم اختارته الجامعة الأمريكية رئيسًا للقسم العربي بها وظل بها، من سنة 1922 – 1932م. وفي نفس السنة التحق بمدرسة الحقوق الفرنسية بالقاهرة، فأمضى بها سنتين، وأمضى السنة الثالثة بباريس حيث أدى امتحان الليسانس.

وفي سنة 1929م، انتدبته حكومة العراق بصفة شخصية لمدة ثلاث سنوات أستاذًا للآداب العربية بدار المعلمين العليا ببغداد. وقد زكى لطفي السيد سفره إلى بغداد ليكون مبررًا أمام المالية حتى يشغل في الجامعة درجة أستاذ بعد عودته. وهذه السنوات الثلاث من أخصب حياة الزيات، وقد كتب عن هذه الحقبة كتابًا سماه "العراق كما عرفته". ومن دواعي الحسرة أننا لا نعرف عن هذا الكتاب إلا ما كتبه عنه مؤلفه هنا وهناك. ولكن ماذا حدث لهذا الكتاب وما قصة اختفائه؟... وللحديث بقية في الأسبوع المقبل إن قدر الله لنا البقاء واللقاء.

إعلان

إعلان